تقرير: أحمد عوضه & نجم الدين قاسم
على ضوء مصباحٍ خافت، يقضي الفنان والخطاط فيصل قاسم النهاري (39 سنة)، معظم مساءاته منحنيًا على طاولةٍ خشبيةٍ يتوسطها ورقٌ مستطيل لمّاع "كوشيه" وعلبةٌ صغيرة مَحشُوَّةٌ بخيوط النايلون المنقوع في الحبر، يُغَمِّسُ فيها بحركة روتينية "يراعًا" من القصب المُشَذّبِ مِن طرفه. وبكثير من المهارةِ والصبر يشرع في تشكيلِ لوحةٍ بديعةٍ بخط "الثُّلُث" أو "الجلي الديواني" بإتقان فائق، بعد خبرة تقارب 25 سنة، منذ افتتانه الأول بالفنون الإسلامية (الخط والزخرفة)، بعد أن كان فنانًا تشكيليًّا يرسم الطبيعة والوجوه في بواكير صباه بمحافظة ريمة (غرب اليمن) مسقط رأس النهاري.
بدافع الشغف فقط، يكرّس النهاري جزءًا لا بأس به من وقته في ممارسة الفن، مع أنَّه غالبًا لا يجني أي مقابل من لوحاته، رغم فخامتها وجودة إتقانها، سوى إشادات متابعيه على تطبيق "أنستغرام" الذي وفر له شهرةً محدودة، لا تتناسب مع كونه أحد أعمدة الفن الإسلامي في اليمن، وعضو جمعية الخطاطين اليمنيين، وشاعرًا عضوًا في رابطة شعراء العرب.
في حديث لـ"خيوط" يؤكد النهاري أن حياته الفنية لم تخلُ من عوائق كثيرة لم يتجاوز بعضها حتى الآن "بدءًا من عدم توفر الإمكانات الضرورية وأدوات الخط، وانتهاء بالظروف المعيشية الصعبة. يذكر النهاري أنه كان قد شرع في تأليف موسوعة عالمية عن المدارس الفنية للخط العربي في العالم وعلاقتها ببعضها، وبدأ فعلًا الكتابة وشراء المراجع من أكثر من ست دول، مستعينًا بمؤسسات فنية كبيرة، لكنه توقف بسبب نقص المصادر الموثوقة، مثل المؤلفات والأطروحات الخطية في الجامعات المهتمة بهذا الشأن، وبسبب الجانب المادي، لأن بعض المراجع تحتاج إلى مبالغ لإيصالها، ثم تحتاج للجهة التي تصرِّح بتصويرها في بعض الدول".
بين فترةٍ وأخرى، يقيم النهاري دوراتٍ خاصة لتعليم المبتدئين أساسيات فن الخط العربي وفق قواعده الهندسية، بدافع "الإسهام في حفظ هذا الفن العريق من الضياع، بالإضافة إلى شعوره أن فن الخط أمانةٌ يجب حفظها في السطور، كما حفظ أسلافنا القرآن الكريم في الصدور"، حسب النهاري.
أخذ الزخم الفني في السنوات الأربع الأخيرة في الاتساع والتنامي، متجاوزًا الظروف الاقتصادية والأمنية التي صرفت الاهتمام الحكومي والشعبي إلى قضايا لا علاقة لها بالفن
توهج فني يتحدى الواقع
شهدت السنوات الأربع الأخيرة في اليمن حِراكًا فنيًّا غير مسبوق، رغم العراقيل التي استجدت نتيجة للحرب المستعرة في البلاد منذ مارس/ آذار 2015، التي ألقت بتبعاتها على مجمل القطاعات، لكن بشكل مغاير أخذ الزخم الفني في الاتساع والتنامي، متجاوزًا الظروف الاقتصادية والأمنية التي صرفت الاهتمام الحكومي والشعبي إلى قضايا لا علاقة لها بالفن. إذْ إن ما حدث على الصعيد الفني كان خلافًا للمتوقع، حيث لمعت أسماء فنانين يمنيين من فئة الشباب على المستوى العربي والعالمي، في مجالات الفن التشكيلي (بجميع مدارسه) والخط العربي، والزخرفة، والمنمنمات، والنحت، إضافة إلى ظهور نماذج فنية مستحدثة كالرسم بالقهوة والرسم الرقمي والكتابة الغبارية، والنحت على البيض أو أقلام الرصاص، وغيرها.
ذلك "الانفجار الفني" أرجعه الفنان ردفان المحمدي (رئيس ومؤسس المنتدى العربي للفنون) في حديثه لـ"خيوط" إلى "تعطش الناس أكثر من قبل للفنون، بسبب سفر اليمنيين للاغتراب في بلدان أخرى، وهذا بدوره أدى إلى احتكاكهم بثقافات مختلفة، ما خلق لديهم ميولًا لدفع أبنائهم لتعلُّم الفنون التشكيلية، وهو عاملٌ رئيس، ساهم في زيادة الاهتمام بالفنون، لكن المشكلة التي تواجه غالبية الفنانين اليمنيين، هي عدم قدرتهم على بيع أعمالهم، سوى قلّةٍ قليلة ممن تسنّى لهم الخروج من دائرة البيع في اليمن وإيصال أعمالهم لدول عربية وأوروبية".
من واقع الخبرة والاختصاص، يُبْدِي المحمدي كثيرًا من التفاؤل إزاء الاهتمام المتزايد بالفن التشكيلي، معربًا عن ثقته في أن الحركة الفنية في اليمن تزدهر وتتقدم بخطى واثقة إلى الأمام، حيث يزداد عدد المبدعين وتزداد أعمالهم تطورًا ونضجًا، لكن ما هو قائم الآن لم يصل بعد إلى المستوى المأمول، بحسب المحمدي.
إلى ذلك، يرى الفنان والخطاط فيصل النهاري، أن هذا الحِراك الفني المطرد، خلال السنوات الأخيرة لم يكن سوى ردة فعلٍ لا إرادية وغير مخطط لها، فالنِّتَاج الفني خلال السنوات الأربع الماضية يعادل في مِقداره مجموع الإنتاج الإبداعي في عشر سنوات قبلها.
ويضيف النهاري لـ"خيوط"؛ "شخصيًّا، أرى هذا الموضوع من جانب فلسفي، وهو أن المتعطشين للفن يقولون بلسان الحال: تمسك بما تستطيع التمسك به، تشبث بالحياة، التي حُرِمَ معظم المبدعين من ممارستها، بصورةٍ عادية ودون معوقات".
الخروج من القمقم
لعبت المنصات التفاعلية (السوشال ميديا) دورًا محوريًّا في إبراز الموهوبين اليمنيين وإخراجهم إلى دائرة الضوء، من خلال الهامش الذي وفرته منصات أنستغرام ويوتيوب وفيسبوك، إلى جانب هجرة كثير من الفنانين اليمنيين إلى بلدان أخرى، بعد أن وجدوا فرصًا لم تكن في متناولهم في اليمن، حيث أصبح بعضهم يعمل كأساتذة ومدربين في أكاديميات عالمية.
منهم نَسَّاخُ المصحف الشريف، الخطاط ذائع الصيت "زكي الهاشمي"، الذي تحظى أعماله الفنية بحفاوةٍ لافتة من المهتمين والهواة حول العالم.
يؤكد الهاشمي في حديثٍ لـ"خيوط" على أن اليمن مرَّتْ بفتراتٍ عصيبة فنيًّا، بسبب عدم احتكاك الخطاطين بالخارج الفني، وبسبب انقطاع أو تعذُّر وصول الأدوات المتخصصة، وقبلها عدم وجود ثقافة فنية تدفع الخطاط للسعي خلف الحرف العربي وجماليته.
يستدرك الهاشمي موضحًا: "لكن في الفترة الأخيرة، طرأت عدة عوامل ساهمت في إنعاش الحراك الفني، من أهمها الانفتاح المعرفي الذي نراه على وسائل التواصل الاجتماعي بشكل ملفت، حيث بدأت التجارب الشخصية والتواصل المستمر من قبل اليمنيين مع الأساتذة سواء في الداخل أو الخارج، إذ رأينا الكثير من المبدعين الذين تميزوا وزاحموا في الصفوف الأولى عالميًّا، وما زالت اليمن ولَّادة بالمبدعين، ونحن قادمون على نهضة فنية فريدة بإذن الله"، ينهي الهاشمي حديثه.
في السياق نفسه، يؤكد الخطاط فيصل النهاري على أن وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في إثراء الفضاء الفني في اليمن، حيث نجح فنانون وفنانات في تحويلها إلى منصات فنية وتعليمية لتطوير مستواهم، ومشاركة خبراتهم مع الوسط الفني، لافتًا إلى أنه رغم شحة الإمكانيات وتردي الوضع المعيشي، صعد إلى الواجهة الفنية أكثر من 80 خطاطًا، فضلًا عن اقتحام المرأة لهذا المجال لأول مرة في تاريخ اليمن، حيث يوجد حاليًّا أكثر من 13 خطاطة متمكنة في بعض الخطوط، إضافة إلى شيوع المسابقات الفنية الكبيرة التي جعلت الفنان اليمني محط تقدير في الداخل والخارج، فقد أثبت الفنان اليمني أنه عصامي وقادرٌ على استنبات الجمال من ركام الحرب".
تواجه الفنان عراقيلُ شتى، على رأسها تَعَذُّرِ الحصول على بعض المستلزمات في المكتبات المحلية، وهو ما يجعله يضطر إلى التواصل مع مغتربين يمنيين في الخارج، وهو ما قد يجعله ينتظر عدة أسابيع وحتى شهور، حتى تصل احتياجاته
موهوبون في حدود الممكن
على أرضية صالة باردة، تضع تسنيم علي (17 سنة)، عِدَّتها من الأوراق والـ"بلته" الخاصة بالألوان، ثم تباشر في إكمال تلوين لوحة رسمتها سابقًا، بصبرٍ نادر.
تقضي تسنيم أحيانًا عدة أسابيع في رسم لوحة واحدة، حيث تعكف بعد فراغها من أعمال المنزل على الانزواء، مُكَوَّرَة الظَّهْرِ لساعات، فهي - حتى الآن - لم تتمكن من شراء الحامل الخاص بالرسم (ستاند)، مكتفيةً بطقمٍ من الفُرَشِ رَخِيصة الثمن، ومجموعة من الألوان المائية، وحزمة من الورق المقوى.
تقول لـ"خيوط": " أواظب على هذا الروتين بشكل شبه يومي، بهدف تنمية موهبتي، خصوصًا أنه لم يتسنَ لي الالتحاق بأي دورة تدريبية حتى الآن، إنَّما بين الحين والآخر أتابع بعض المساقات التعليمية المتاحة على الإنترنت، كتلك الموجودة على موقع "يوديمي" مثلا".
لا تنفي تسنيم أن الواقعَ محبطٌ للغاية، لكن ذلك لم يقلل من شغفها بالفن والألوان؛ تقول: "صحيح أنني أواجه بعض العراقيل، حتى من قبل الأهل، فوالدتي مثلًا تكرر عليَّ دائمًا أني أهدر وقتي في أشياء لا تفيد، مع أني لا أمارس الرسم إلا في أوقات فراغي، دون أن يؤثر ذلك على تفوقي في المدرسة".
قريبًا من ذلك، يرى كمال الفلاحي (24 سنة)، نفسه فنانًا عصاميًّا، رُغم حداثة تجربته في فن الخط العربي، الذي بدأ تعلمه من أحد أصدقائه قبل 4 سنوات، ثم التزم بتطوير مهارته من خلال متابعة دروسٍ يقدمها خطاط سوري عبر مجموعة خاصة على تطبيق "واتسآب" بشكل مجاني، مع متابعة تصحيح التمارين الجماعية للطلاب أولًا بأول.
يقول كمال لـ"خيوط": "تواجه الفنان عراقيلُ شتى، على رأسها تَعَذُّرِ الحصول على بعض المستلزمات في المكتبات المحلية، أنا مثلًا أضطر أحيانا إلى التواصل مع مغتربين يمنيين في السعودية لشراء نوع معين من الأحبار أو الفُرَش من هناك، لذا عليك أن تنتظر عدة أسابيع وربما شهورًا حتى تصل إليك مع أحد العائدين".
يتابع الفلاحي: "بعض الزملاء ممن لديهم قدرةٌ مادية جيدة، يَعْمَدُوْنَ إلى التواصلِ مع متاجر الخط التي تعرض خدماتها على تطبيقي فيسبوك وأنستغرام مع خدمة التوصيل، وهو ما يجعل الطلبية مكلفة للغاية، وليست في متناول الأغلبية على أي حال".
ويأمل كمال الذي يدرس حاليًّا في السنة الرابعة بكلية الطب، أن تتسنى له فرصة الالتحاق بأكاديمية "أرسيكا" الشهيرة في إسطنبول، لدراسة الفنون الإسلامية على يَدِ أساتذة الخط العربي، والمشاركة في المسابقات والمعارض الدولية، حيث يعتقد أنه يجد ذاته في ممارسة الفن أكثر منها في ممارسة الطب، لولا أنَّ الظروف تجبِره على تأجيل حُلمِه.
تداخُلُ الأزمات
"محمد المسيبي" مدير عام المؤسسات الثقافية بوزارة الثقافة بحكومة صنعاء، ينفي لـ"خيوط" وجود قصور حكومي في رعاية الحراك الفني في اليمن، مشيرًا إلى أن الوزارة ما تزال ملتزمة باللوائح الخاصة برعاية المواهب الشبابية عن طريق إقامة المسابقات الفنية وشراء الأعمال الفائزة، تشجيعًا للفنانين التشكيليين.
ويقول المسيبي: "حدة أزمة وباء كوفيد-19 وإجراءات الحظر الصحي المصاحبة، إلى جانب استمرار الحرب الدائرة في البلاد منذ أكثر من خمس سنوات، ورغم ذلك استمرت الوزارة بدعم الفن والشباب، إذ أقيمت عدة فعاليات وأنشطة متنوعة ومعارض تشرف عليها الوزارة"، حد قوله.
ويَخْلُصُ الفنان ردفان المحمدي، إلى التأكيد على أن نجاح أي حراك فني لا بُدَّ أن يُبنَى على عدد من العوامل، من بينها وجود وعي مجتمعي بأهمية الفنون، وبناء كليات ومعاهد فنية في كل محافظة يمنية، إلى جانب إنشاء مؤسسات ثقافية تُعنى بإقامة الندوات والورش الفنية و"غاليريهات" العرض. مضيفًا: "صحيح توجد حاليًّا بعض القاعات والمؤسسات إلا أنها محدودة جدًّا، وأغلبها أُنشِئَتْ بجهود شخصية بدعم خارجي أو داخلي أو من قبل رجال أعمال، لكنها لا تلبث أن تتحول إلى مؤسسات ربحية حين تعجز عن مجابهة النفقات التشغيلية".
"جوانب النقص" هذه - بحسب المحمدي - تُحتِّم على الدولة توفيرها، في الحد الأدنى، إضافةً إلى حظر التحريض تجاه الفن من قبل بعض "رجال الدين" في الخطب والجلسات الدينية، التي تروِّج لنصوص دينية مُختلقَة أو يُساء فهمها للحضِّ على معاداة الفن التشكيلي ومريديه.