المكلا بين كساد الأسواق وأضاحي الجيران

رفاهية مؤجلة ، وعيدٌ يأتي مثقلًا بما لا يقال
عبدالله البيتي
June 5, 2025

المكلا بين كساد الأسواق وأضاحي الجيران

رفاهية مؤجلة ، وعيدٌ يأتي مثقلًا بما لا يقال
عبدالله البيتي
June 5, 2025

في حضرموتَ وتحديدًا في مدينةِ المكلا لا تحلُّ الأعيادُ كما ينبغي لها أن تحلَّ -لحظةُ صفاءٍ دينيٍّ واجتماعيٍّ- بل تهبط مثقلةً بأسئلةٍ معلَّقةٍ، في واقعٍ يزداد ثِقلاً مع كلّ مناسبةٍ تمرُّ. عيدُ الأضحى هذا العام لا يجيء كبشارةٍ بل كفصلٍ جديدٍ في روايةٍ طويلةٍ من المعاناةِ، تقف فيها التقاليدُ أمام اختبارٍ قاسٍ، وتُستدعى فيها طقوسُ الفرحِ في زمنٍ يضيقُ فيه رزقُ الناسِ، وتغيب الدولةُ عن المشهدِ إلّا كظلٍّ باهتٍ.

في شوارعِ المكلا وأسواقها لا تبدو الحركةُ كما كانت، ولا الوجوهُ كما عُهِدَت في مثل هذه المواسمِ. الأسعارُ تتصاعد كأنما تتعمّد استفزازَ الجيوبِ الخاويةِ، والناسُ بين مَن قرّر أن يضحّي بما تبقّى في محفظتِه، ومَن أجَّل العيدَ إلى زمنٍ أوفر. وبينهما تُطلّ روحُ حضرموت القديمةِ من نوافذِ البيوتِ تحاول لملمةَ ما تبقّى من قيمِ التكافلِ، وتسكب قليلًا من العزاءِ في موائدَ جفَّ عنها اللحمُ، وكادت تُنسى فيها رائحةُ الأضاحي.

هذا العيدُ ليس مناسبةَ احتفالٍ بقدر ما هو مرآةٌ لحالِ مدينةٍ تقاوم بصمتٍ، وتُعيد ترتيبَ وجدانِها الجمعيّ في مواجهةِ زمنٍ صار فيه الفرحُ رفاهيةً مؤجَّلةً. ومع ذلك لا تنكسرُ المدينةُ ففي زواياها الضيقةِ لا يزال الناسُ يتعاضدون، يتقاسمون القليلَ، ويُرمِّمون بهجتَهم بما أمكن من محبةٍ وتكافلٍ. فحضرموتُ وإن أرهقَها الغلاءُ ما زالت قادرةً على أن تخلق من الحاجةِ جمالًا، ومن القسوةِ دفئًا بشريًّا يُعيد للأعيادِ معناها الحقيقيّ ولو على استحياءٍ.

عيد يكشف صدوع الأسواق

لا يقتصر العيد على شعائرِ التضحية والزيارات العائلية، فهو أيضًا موسمٌ اقتصاديٌّ مزدوجُ الواقِع يُحرِّك عجلةَ الأسواق المحليّة بقدر ما يُرهق موازينَ الأُسَر. عند بوابة كلّ عيدٍ تتقاطع مشاعرُ الفرح وروحُ التكاتف مع متطلّباتٍ ماديةٍ متراكمة، فتظهر هشاشةُ البنية الاقتصادية للمدينة رغم الازدحام الموسمي الذي يطرأ على شوارعها وأسواقها.

مع غياب سياساتٍ تنظيميةٍ واضحة أو دعمٍ حقيقيٍّ للقطاعات المنتِجة، تتسع مساحةُ المضاربة ويتفاوت التسعير بلا رقيب، فتتآكل قدرةُ الأُسَر  على التكيّف مع موجة الغلاء الفجائية 

منذ مطلع شهر ذي الحجة تشعل لوائحُ الأسعار موجةَ إنفاقٍ استثنائية، فالشراء يتحوّل من حاجةٍ إلى طقسٍ اجتماعيٍّ لا يكتمل العيدُ من دونه. يصف علي العمودي –مالك متجرٍ للألبسة في حي المساكن– هذا المشهد لـ (خيُوط) بقوله: "النّاس تريد إسعادَ أطفالها، حتى لو اضطُرّوا للاستدانة. في الأسبوع الذي يسبق العيد نبيعُ ما نعجز عن بيعِه في شهرٍ كامل، لكن بعده يعود السوق إلى سباته".

ومع غياب سياساتٍ تنظيميةٍ واضحة أو دعمٍ حقيقيٍّ للقطاعات المنتِجة، تتسع مساحةُ المضاربة ويتفاوت التسعير بلا رقيب، فتتآكل قدرةُ الأُسَر –-وخصوصًا متوسِّطي ومحدودي الدخل- على التكيّف مع موجة الغلاء الفجائية.

يبلغ النبضُ الاقتصادي ذروته في سوق المواشي الرئيس بالشرج، حيث تنعكس حركةُ البيع والشراء على قدرة السكان الفعلية لا الرمزية. يشير الحاج سالم باوزير -أحد باعة الأغنام هناك- إلى تراجعٍ ملحوظٍ بقوله متحدثًا لـ (خيُوط): "الإقبال موجود، لكن الجيبَ خاوٍ. سابقًا كانت العائلات تشتري أضحيتين أو ثلاثًا أحيانًا، الآن تكاد تكتفي بواحدة، وأحيانًا تكون بالتقسيط".

في أزقّة أسواق المكلا القديمة التي لطالما صدحت بزحام العيد وروائح العطور والحناء باتت ملامحُ الموسم تتقلّص عامًا بعد عام لا بفعل تغيّر العادات، بل بثقل الواقع المعيشي

تنامي أسعار المواشي التي تصل قيمتها إلى (350,000 ثلاثمائة وخمسون ألف ريال يمني) نتيجة التضخُّم المستمرّ رفع كلفة اللحوم على امتداد السلسلة؛ فالمطاعم، والبائعون، وحتى موائد الأُسَر الفقيرة، واجهوا ارتفاعًا متزامنًا في الأسعار، وفي غياب رقابةٍ فاعلةٍ تحوّل شعار السوق إلى (مَن استطاع إليه سبيلًا).

وهكذا اعتمدت كثير من العائلات على مدّخرات السنة أو الاِستدانة لتلبية متطلّبات العيد المختلفة والكثيرة. تقول أم محمد لـ (خيُوط) - وهي ربة منزل من حيّ السلام-: "صرنا نشتري اللحم بالكيلو بدلًا من الأضحية. صحيح أن العيدَ فرحة، لكن الراتب لا يرحم". بهذا المنطق يتكرّس اقتصادٌ لحظيٌّ قائمٌ على الاستهلاك السريع لا على الإنتاج، ويُعاد إنتاج فجوةٍ بين العرض والطلب تتكرّر مع كل موسم.

يعطي العيدُ للاقتصاد المحلي دفعةً قصيرةَ العمر، فحركةُ النقل تنشط، ويزدهر العمل في محلات الحلاقة والخياطة ومبيعاتُ البهارات والملابس، غير أن هذه الحيوية الموسمية ما تلبث أن تنحسر بانتهاء التكبيرات، لتعود الأسواقُ إلى رتابة ما قبل الموسم، كاشفةً صدوعًا هيكلية تتطلّب علاجًا يتجاوز العروض المؤقتة، حتى لا يبقى (عيد السوق) فرحةً عابرةً تعقبها كلفةٌ باهظة تدفعها الأُسَر على مدار العام.

المدينة تتزين بالقليل 

بين أزقّة أسواق المكلا القديمة التي لطالما صدحت بزحام العيد وروائح العطور والحناء باتت ملامحُ الموسم تتقلّص عامًا بعد عام لا بفعل تغيّر العادات، بل بثقل الواقع المعيشي. إذ يخطو المواطن هذه الأيام بين البسطات بحذرٍ لا يشبه حنينه إلى مواسم العيد، بل يُذكّر أكثر بمَن يقلب دفاتر الإنفاق في محاولةٍ يائسةٍ لتقليص الخسائر لا لتحقيق المكاسب.

وفي مدينةٍ عرفت عيد الأضحى كمناسبةٍ للأضاحي والولائم تحوّل الحديثُ عن الأضحية إلى عبءٍ ثقيلٍ مشفوعٍ بالتنهيدة لا بالتكبير، في ظلّ ارتفاع أسعار الأغنام وانهيار قيمة الريال اليمني وجد أهلُ المدينة أنفسهم في مفاوضةٍ مُرّة مع الأرقام قبل أن يُفاوضوا بائعي الأغنام فقد صار خروفُ العيد حلمًا بعيد المنال لكثير من العائلات، ومع تجاوز سعر الدولار حاجز (2,530 ريالًا يمنيًّا للدولار الواحد) في مناطق سيطرة الحكومة المعترف بها دوليًّا، لم يعد الراتبُ الحكومي يكفي إلا لشراء خروفٍ هزيلٍ من الدرجة الثالثة.

يقول سالم بامطرف -موظفٌ في قطاع حكومي- إنّ "ثمن الأضحية اليوم يعادل نصف راتبي، وربما أكثر. أحاول أن أوفّر لأولادي شيئًا من فرحة العيد، لكنني أعلم أنني سأدفع الثمن لأشهر لاحقة". أمّا أم عبد الله -وهي أرملةٌ تعول أربعة أطفال- فقد اختارت أن تتخلّى عن كسوة العيد في سبيل الغذاء إذ تقول: "أمامنا خياران: إما ما نلبسه، أو ما نأكله. اخترنا الطعام، فالفرح يمكن أن يُؤجَّل، أما الجوع فلا ينتظر".

مع تفاقم التضخّم في البلاد -الذي قدّر البنك الدولي معدّله السنوي بأكثر من 27%- وتراجع نصيب الفرد من الناتج المحلي لا تبدو الأزمةُ ظرفًا عابرًا بل سياقًا جديدًا تُعيد المدينة ضمنه تعريف علاقتها بالأعياد

في مواجهة هذا الواقع وضيق الحال يلجأ المواطنون إلى حلولٍ وحِيلٍ بديلة تتفاوت في طابعها بين الجماعي والرمزي. بعض الأسر تتشارك في شراء أضحيةٍ واحدة، وأخرى تُفضّل شراء لحوم الدجاج كخيار اقتصادي، وثمّة من يختزل مظاهر العيد معنويًّا في صلاته وتبادل التهاني، متمسّكًا بأبعاده الروحية لا المادية. وتنتشر في الأحياء الشعبية مبادراتٌ أهليةٌ بسيطةٌ تهدف إلى توزيع لحوم العيد على الأُسَر الأكثر حاجةً في محاولاتٍ مجتمعيةٍ لتقليل الفجوة بين ما هو واجبٌ وما هو ممكن.

ومع تفاقم التضخّم في البلاد -الذي قدّر البنك الدولي معدّله السنوي بأكثر من 27%- وتراجع نصيب الفرد من الناتج المحلي لا تبدو الأزمةُ ظرفًا عابرًا بل سياقًا جديدًا تُعيد المدينة ضمنه تعريف علاقتها بالأعياد. عيد الأضحى في هذا الإطار لم يعد مجرّد مناسبة موسمية بل اختبارًا متكررًا لقدرة الناس على تجاوز العجز بالمشاركة، واليأس بالتكافل، والعوز بالرضا.

اللُحمةُ في زمن العُسر

في المكلا حيث تشتد أعباء المعيشة وتتسع دوائر الحاجة عامًا بعد عام لا يغيب عن الوجدان الجمعي جوهرُ العيد الأعمق وهو المشاركة، ففرحة الأضحى هنا لا تُقاس بعدد الأضاحي، بل بقدرة الناس على صيانة ما تبقى من معنىً اجتماعيٍّ للمناسبة، عبر مبادراتٍ تُولَد غالبًا من رحم العوز، لكنها تُثمر كرامةً وفرحًا.

يقول الحاج عوض المشجري –أحد وجهاء حي الشافعي- "من ثلاث سنوات ونحن نجمع التبرعات من المغتربين وأهل الخير، ونقسّم الأضاحي على المحتاجين. العيدُ لا يكتمل إلا إذا شاركنا الفرحة مع مَن ظروفهم صعبة". كلماتٌ بسيطة تختصر فلسفةَ حيٍّ بأكمله؛ منظومةٌ غيرُ رسميةٍ من التضامن تتشكّل كلَّ عام، حيث تغيب الدولة في كثيرٍ من التفاصيل، ويبرز الحيُّ كحاضنةٍ للتكافل.

هذا المشهد لا ينفرد به حيٌّ دون آخر بل يتكرّر في أحياء مختلفة من المدينة حيث تبرز مبادراتٌ أهليةٌ تتكفّل بشراء الأضاحي وتجهيزها وتوزيعها على البيوت بهدوء. بعضها يأخذ طابعًا مؤسسيًّا محدودًا وأخرى تنطلق من جهودٍ شبابيةٍ فردية لكنها في مجموعها تشكّل شبكةَ تضامنٍ صامتة، تعمل وفق مبدأ أن (العيد لا يُصنع في السوق، بل في النيّة).

على هامش هذا الحراك تواصل مؤسسة الفجر الخيرية الاجتماعية للعام الحادي والعشرين تنفيذَ مشروعها السنوي لتوزيع الأضاحي. ورغم التحديات لا تزال المؤسسة من أبرز الأذرع المجتمعية في مواجهة موجات الفقر الموسمية.

لا يملك عيدُ الأضحى في المكلا إلا أن يمرّ من بوابة التضامن. هو زمنٌ عسيرٌ لكنه يكشف في كل عام عن نُبل الناس حين يختارون أن يتقاسموا الفرح، لا من باب الفائض بل من عمق الحاجة نفسها

يقول محمد البيتي، رئيس المؤسسة بلغةٍ تتأرجح بين الألم والإصرار: "الإقبال هذا العام فاق كل التوقعات. لأول مرة نتلقى طلباتٍ من موظفين وأُسَر كانت تُعدّ من الطبقة الوسطى. الأسعارُ خنقت الجميع حتى مَن كانوا يذبحون في السابق باتوا يطلبون اللحم".

وفي رسالةٍ وصلت المؤسسة مؤخرًا كتب أحد المواطنين بحُرقة: "يا أهل الخير ما عندي عيد هذا العام، أرجوكم لا تنسونا. في بيتي ثمانية عشر نفسًا، ولم نذق طعم اللحم في عيد الفطر، كان عيدنا دجاجًا. فهل يكون لنا في الأضحى نصيب من لحم يُدخل الفرح على أطفالنا؟". هذه الرسالة لا تستجدي العطف بقدر ما تضع الإصبع على جوهر الفكرة: إنّ العيد في أساسه ليس طقسًا شعائريًّا فحسب، بل لحظةُ تضامنٍ موسمية تُرمَّم بها العلاقات الاجتماعية.

لكن هذا الجهد الخيري يصطدم بجملةٍ من التحديات، منها ارتفاعُ أسعار المواشي، وتقلّص التبرعات، وتزايد عدد المحتاجين. وبرغم كل ذلك يؤكّد البيتي أنّ "المجتمع المقتدر" ما يزال يشكّل السندَ الأهم، في ظلّ غياب أي دعمٍ رسمي، مردفًا بنبرةٍ حاسمة: "لا توجد مساهمةٌ من الدولة، وهذا واقعٌ لا يحتاج تعليقًا".

لا يملك عيدُ الأضحى في المكلا إلا أن يمرّ من بوابة التضامن. هو زمنٌ عسيرٌ لكنه يكشف في كل عام عن نُبل الناس حين يختارون أن يتقاسموا الفرح، لا من باب الفائض بل من عمق الحاجة نفسها. وفي ذلك ربما يتجدّد المعنى الأصيل للعيد: أن يكون مناسبةً يجتمع فيها الناس على أكل اللحم حين يتعذّر ذبح الأضاحي، وعلى تبادل المحبة حين يشقّ عليهم تبادل الهدايا، وعلى الحمدِ حين تتقلّص وسائلُ الزينة، فيُزيّنون أيامهم بالرضا.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English